الأوضاع في الأراضي الفلسطينيَّة المحتلّة: السياقات الإقليميَّة، والسّياسة الأردنيَّة
*المصدر: معهد السياسة والمجتمع
عقد معهد السياسة والمجتمع للدراسات والابحاث ورشة عمل مغلقة ضمت نخبة من السياسيين والخبراء الأردنيين في مبنى المعهد (بتاريخ 19-5-2021) لمناقشة التطورات التي تحدث في الأراضي المحتلة وانعكاساتها الإقليمية، وتقييم الموقف الأردني خلال الأحداث، وتقديم قراءة لما هو مطلوب خلال المرحلة المقبلة. التزم الحضور بمبدأ Chatham House، في المناقشات التي تناولت المحاور السابقة، وقد رصد المعهد النقاشات والآراء المتعددة، وخرج بورقة ضمن “أوراق القرار” التي يصدرها المركز وتتضمن تقديراً للموقف في المسألة المطروحة، وتم عرض الورقة على المشاركين وأخذ ملاحظاتهم، ثم العمل على نشرها وتقديمها لأصحاب القرار في مواقع مختلفة للإفادة مما جاء فيها.
تشكِّل المواجهات السّلمية والمسلّحة في الأراضي المحتلّة بين الفلسطينيين وإسرائيل تطورًا نوعيًا على صعيد الحالة الفلسطينيَّة خصوصًا، وعلى صعيد الأوضاع الإقليميَّة والسياسات الدوليَّة تجاه المنطقة. رغم أن هذه ليست هي المواجهة العسكريَّة الأولى بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، فإنّ هنالك متغيرات رئيسية جديدة تجعل الأوضاع اليوم مغايرة لما سبق:
أولاً: على صعيد القدس وما تمثله من رمزيّة وما شهدته من مواجهات غير مسبوقة خلال الأعوام الماضية.
ثانياً: على صعيد الضفة الغربيَّة والاحتجاجات السلميَّة التي تأخذ مسار الاشتباك على الحواجز بين الشرطة الإسرائيلية والشباب الغاضبين.
ثالثاً: على صعيد أراضي الـ48 والمواجهات بين الفلسطينيين ممن يحصلون على “المواطنة الإسرائيلية” والإسرائيليين اليهود.
رابعاً: على صعيد تطور القدرات الصاروخية لحركة حماس وبعض فصائل المقاومة الأخرى، وقدرتها على الوصول إلى مدى أكبر من التهديد للداخل الإسرائيلي، مما يضع استراتيجية الردع الإسرائيلية التي استخدمت خلال الأعوام الماضية لتأكيد التهدئة بين الطرفين على المحك.
من جهةٍ أخرى، تعيد التحولات الجديدة تخليق السياقات الدوليَّة والإقليميَّة والداخلية الفلسطينيَّة نفسها في اتجاه مغاير لما تشكَّل خلال الأعوام السابقة، ووصل إلى مرحلة متقدمة مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وولّد في حينه صفقة القرن، وعمليات التطبيع والتسوية الإقليميَّة – العربية مع إسرائيل، على قاعدة أولوية الصراع مع إيران، وبناءً على فرضية تراجع القضيّة الفلسطينيَّة وأهميتها بالنسبة للشعوب العربيَّة.
أردنياً، ترتبط القضية الفلسطينيَّة بدرجة كبيرة بالأمن الوطني الأردني، وتشتبك مع المصالح الاستراتيجيّة الأردنيَّة على أكثر من مستوى؛ الأمن الإقليمي، القدس والوصاية الهاشمية، اللاجئين، الاستقرار في الضفة الغربيّة، المعادلة السياسيّة الداخليّة.
المفارقة أنّ الملك عبدالله الثاني كان أول من حذّر لخطورة نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس وتأثير ذلك على أمن المنطقة بأسرها، وأكّد على ذلك من خلال جهود دبلوماسيّة هائلة حينها، وفي اتصاله مع الرئيس الأميركي السابق (5-12-2-17)، وهو الأمر الذي دفع ترامب بعد ذلك بالسخرية مما اعتبره تهويلاً بشأن تداعيات ذلك، ثم المضي في صفقة القرن، التي لم يؤيدها الأردن، ولاحقاً عمليات التطبيع العربيّة – الإسرائيلية، وجميعاً كانت تسير في اتجاه مناقض تماماً للمصالح الوطنية الأردنيَّة التي تقوم على حماية القدس وهويتها، وعلى إقامة دولة فلسطينية على أراضي الـ67، وعاصمتها القدس.
أولاً: عوامل نشوب الهبّة الشعبيَّة الفلسطينيَّة الشّاملة:
1– الهبَّة الشعبية السلمية: أعادت “صفقة القرن” وما نتج عنها من اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل ودول عربية؛ مدينة القدس لما يمكن وصفه بـ “حرب الأمكنة” و “أيديولوجية المكان”، نظرًا لما تتمتع بهِ من رمزية سياسيّة ودينيّة وتاريخيّة، تصنع وحدة الفلسطينيين وتعزز انتماءاتهم المقدسيّة، مشكّلة بذلك مركزية الهوية الفلسطينيَّة ومصدر الغضب والاحتجاج الشعبي ضد الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة فيها، وتبلورت بشكل عفوي سياسة جديدة تقوم على الردع الجماهيري، التي ترتكز في الدرجة الأولى على فكرة الأرقام، والتي اهتزت لهتافاتها جدران مدينة القدس، بداية من هبة البوابات الإلكترونية حول المسجد الأقصى، مرورًا بهبّة باب الرحمة، وصولاً إلى هبّة القدس الأخيرة، والتي تمكنوا خلالها من إحداث توازن بين قوة الاحتلال وآلة البطش التي يستخدمها، مقابل أعداد كبيرة من المقدسيين. وثّقت انتهاكات سلطة الاحتلال حجم السلوك العدواني تجاه الفلسطينيين، تحديدًا في باب العامود عندما منعت الفلسطينيين من المكوث في ساحة باب العامود، واقتحمت المسجد الأقصى وأخرجت المصلّين منه بالقوة، وحدّت من وصول فلسطيني الداخل إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، في محاولة ممنهجة للحد من اختلاط واندماج المكونات الفلسطينيَّة، خصوصًا بعد أن أصبح درج باب العامود وساحاته بمثابة مساحة اجتماعية ثقافية لشباب القدس، وفضاء عام فلسطيني يجتمع فيه الجيل الجديد والنخب الثقافية، خصوصًا في ليالي شهر رمضان، وفيما شهدت القدس خروج مسيرات يقودها مستوطنين صهاينة تطالب بطرد العرب والفلسطينيين من القدس.
2- الهبَّة الشعبية المسلحة: ردت المقاومة الفلسطينيَّة المتمثلة بحركة حماس من غزة على هذه الانتهاكات والاعتداءات بتهديد جيش الاحتلال بلغة عسكرية جديدة ذات طابع حاد وحاسم، لم تكترث لها الإدارة الإسرائيلية التي تفاجأت بقصف صاروخي وعملية عسكرية خلال الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان، أطلقت عليها المقاومة اسم “سيف القدس” لم تشهدها إسرائيل منذ النكبة، حيث وصل مدى الصواريخ وتأثيرها إلى أقصى الأراضي المحتلة وداخل مناطق حيوية في تل أبيب، ليبدأ جيش الاحتلال عدوانًا عسكريًا جويًا عنيفاً على قطاع غزة، أفضى إلى مواجهة مسلحة وعنيفة بين الطرفين، نتج عنه خسائر كبيرة في الأرواح الفلسطينيَّة، تقدر حسب وسائل الإعلام بـ “248 شهيدًا من بينهم 66 طفلاً و39 سيدة و17 مسنًا، إضافة إلى 1948 إصابة بجراح مختلفة”، كما أفادت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، أن الهجمات الإسرائيلية أدت إلى نزوح أكثر من 75 ألف فلسطيني عن مساكنهم، لجأ منهم 28 ألفاً، و700 إلى مدارس الوكالة، إما بسبب هدم بيوتهم، وإما هرباً من القصف، فيما لجأ الآخرون إلى بيوت أقربائهم في مناطق فلسطينية أخرى.
ثانيًا: التداعيات الداخليَّة والخارجيَّة لما يحدث في الأراضي المحتلّة:
1- موازين قوى جديدة: رغم محاولات إسرائيل منذ فترة زمنية طويلة تفكيك الحالة الفلسطينيَّة، أفرزت الأحداث الأخيرة وحدة فلسطينية تجاوزت الحوار بين الفصائل والحسابات السياسية، وحتى التقسيمات السياسية بين فلسطيني الـ48، والضفة الغربية وقطاع غزة، وأنتجت تقارباً سياسياً اجتماعياً بين ثلاثة مراكز قوة. برزت ثلاثة أنواع جديدة من المقاومة الفلسطينيَّة، الأولى: مواجهة سلمية يقودها جيل من الشباب المقدسي بعيدًا عن العمل الحزبي والفصائلي المنظم، تتخذ بعد خشن أوقات الاحتكاك والاستفزاز، الثانية: مواجهة سياسية يقودها فلسطينيو الداخل (الـ48) عبر منابر سياسية وجماعات ضغط مؤثرة في السياسات الإسرائيلية، وفق مبدأ المواطنة الإسرائيلية فلسطينية الانتماء، رغم سوء العلاقة مع السلطة الفلسطينيَّة وشخص الرئيس عبّاس، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي خلال المواجهات الأخيرة انسحاب جنود عرب من جيش الدفاع الإسرائيلي وتخليهم عن الخدمة، معلنين تضامنهم مع الهبّة الشعبية الفلسطينيَّة الفلسطينيَّة. الثالثة: مواجهة عسكرية تقودها حركة حماس من قطاع غزة بعد تطويرها أدوات ردع وهجوم جديدة محلية الصنع، وبالتالي تكونت كتلة فلسطينية حرجة مؤثرة على المدى القريب والبعيد في معادلات الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي.
2- التطور النوعي العسكري لفصائل المقاومة: أظهرت المواجهات العسكريّة المباشرة بين فصائل المقاومة في حركة حماس والجيش الإسرائيلي سجالاً عسكريًا غير مسبوق، حيث طوَّرت المقاومة في غزة سلاح صواريخ قتالية جديدة ومتنوعة، وصلت لأهداف لم تصل إليها من قبل، الأمر الذي أعلن حالة الطوارئ في أكثر من منطقة تستوطنها اسرائيل، وفرضت على السكان الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة، كما طوَّرت خطاب الإعلام الحربي لديها، وكشفت الأحداث امكانياتها في الأمن السيبراني ومخاطبة المستوطنين مباشرة عبر هواتفهم النقالة. ما سبق يؤشر أنّ نظرية الردع الإسرائيلية التي تقوم على تحقيق أكبر قدر من التدمير العسكري مقابل أي فعل عسكري، تتآكل مع تطور قدرات المقاومة المسلحة وقدرتها على الوصول إلى مناطق جديدة، وتغير أبعاد الحروب العسكرية ذاتها، ما يشمل الأبعاد الرمزية والمعنوية والسياسية وما يسمى حروب الجيل الرابع، وإذا استمرت المقاومة المسلحة بتطوير قدراتها العسكرية وتكتيكاتها، فستصل إلى مرحلة تكون فيها أكثر قدرة على إيذاء الخصم، وهو أمر بدأت إرهاصاته مع المواجهة الأخيرة.
3- استحضار الرأي العام الإقليمي والدولي: حصدت الهبَّة الشعبية الفلسطينيَّة بشكل عام، والمواجهة العسكرية بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال تفاعل دولي كبير غير مسبوق، ساهم في تشكيله منصات التواصل الاجتماعي من خلال المؤثرين المتعاطفين مع الانتهاكات التي تحدث من قبل قوات الاحتلال والمستوطنين المتطرفين، بالتالي تكَّون ما يعرف بالرأي العام في السياق الرقمي الذي ساند القضية الفلسطينيَّة ونتج عنه مسيرات تضامنية في مدن وعواصم عالمية، من بينها صورة المجتمع الأمريكي لحقوق الإنسان في مشهد الصراع العربي الإسرائيلي، وانعكاس ذلك على المؤسسات الرسمية والأكاديمية التي وصمت إسرائيل علانية بنظام الفصل العنصري، الأمر الذي أعاد القضية الفلسطينيَّة من جديد إلى الواجهة بعد غياب طويل، وأعاد القدس إلى المنابر الدوليَّة ومجلس الأمن الدولي، والجامعة العربية، وإلى منظمة التعاون الإسلامي، وإلى الطاولة الأوروبية، لمناقشتها من جديد.
4- تفكك شرعية عباس وصعود شعبية حماس: في معادلة النتائج، كان حجم الخسائر كبيرًا ومؤلمًا على قطاع غزة مقارنة بالخسائر المادية في الجانب الاسرائيلي، ولكن الأبعاد الرمزية والاستراتيجية والمعنوية؛ تصب في صالح المقاومة التي احتفلت بالنصر المعنوي وشاركها في ذلك كثير من الدول، ومن النتائج السياسية اللافتة؛ تفكك سلطة عبّاس وضعفه الشديد على جميع المستويات، وأوصل رسالة للجميع أنه عاجز عن امتلاك أدوات القرار في كل ما يحدث، سواء في القدس أو في غزة أو في الداخل، حتى التّحركات الشعبيَّة الداخليَّة في الضفة، كانت عفوية من دون توجيه، بادر بزمامها مجموعات من الشباب الفلسطيني غير المنتظم حزبيًا.
قرر عبّاس مؤخرًا تأجيل الانتخابات التي كانت ستشارك فيها حماس، فوجدت الحركة بالدخول في قرار الحرب مع إسرائيل؛ بعدًا سياسيًا على المدى القصير والطويل، وصنعت لنفسها حضور على المستوى الشعبي الفلسطيني والعربي والدولي، وزاد قرار الحرب من شعبيتها، وكان ذلك واضحًا على الأقل في محتوى مواقع التواصل الاجتماعي الذي أربك شركات عملاقة مثل “فيسبوك” و”انستغرام” التي حظرت المحتوى المتعلق بها ثم قامت لاحقا بتقديم اعتذار رسمي عن ذلك بعد زخم المحتوى المتعلق بالمقاومة وحديث عن تهديدات من قبل المشتركين بإغلاق حساباتهم.
على صعيد التسوية، ورغم التحرك الأمريكي والأوروبي مؤخرًا في ملف القضية الفلسطينيَّة، التي قد تسبب لهم صداع مستقبلي على مستوى السياسات الإقليميَّة والدوليَّة؛ لا نعتقد وجود تغيرات جوهرية في ملف التسوية السلمية، وهذا كله مرتبط بما سيحدث مستقبلاً في سلوك إسرائيل تجاه القدس الذي قد يعيد المواجهة المسلحة مجددًا، حيث أن وقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل لا يعني انتهاء الحرب، لأن عوامل نشوبها لا تزال موجودة.
على صعيد العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، يتضح تراجع أهمية إسرائيل بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة التي تكمن أولوياتها أكثر في التركيز على ملف روسيا والصين، وترغب الإدارة الديمقراطية الابتعاد قدر الإمكان عن ضجيج انتهاكات حقوق الإنسان، خصوصًا بعد حادثة مقتل “جورج فلويد” ذات الأبعاد العرقية والعنصرية، خصوصًا بعد وصم الدولة الإسرائيلية مؤخرًا في أكثر من محفل وتقرير على أنها دولة ذات نظام حكم عنصري “أبرتهايد”.
ثالثًا: المتغيّرات الإقليميَّة والدوليَّة :
يشهد الإقليم حراكاً دبلوماسياً ملحوظاً، منذ مجيء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين، في ظل ذلك؛ ظهرت قنوات اتصال ووساطة جديدة مع الإدارة الأمريكية لوقف إطلاق النار بين طرفي النزاع كانت مقتصرة على الجانب المصري والقطري، ورغم علاقته السياسية والقانونية بمحاور الأزمة الرئيسية المتمثلة بالوصاية على المقدسات ومسألة حي الشيخ جراح؛ اقتصر الدور الأردني على الخطابات الملكية والاتصالات الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية، والتركيز على الهدف الأهم المتمثل بوقف إطلاق النار، ويتضح أن هناك حراكًا إقليميًا لإعادة ترتيب الأوراق، وتوزين للأدوار الإقليميَّة في المرحلة القادمة.
1- تقارب محور المقاومة: يشهد الإقليم تحولات في موازين المقاومة وإسرائيل، وتعزز أطراف محور المقاومة في غزة ولبنان وسورية والعراق وربما اليمن على حساب الأنظمة العربية التي قامت بالتطبيع مع اسرائيل، وهذا التغير بطبيعة الحالة ليس في صالح إسرائيل التي أصبحت مهددة أكثر بصواريخ المقاومة، في حال اندلعت مواجهة إقليمية، وما يزيد من هذا التقارب هو مستقبل القدم الإيرانية في المنطقة، والاستقرار السياسي لدول محور المقاومة.
2- تقارب السعودية وإيران: بعد زيارة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي التقى خلالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ احتضن العراق على مستويات رفيعة؛ مباحثات سعودية إيرانية بواسطة عراقية تهدف إلى “تطبيع إيراني عربي” جديد في المنطقة، نتج عنه تبادل إيران والسعودية على المستوى الرسمي رسائل إيجابية تركز على أهمية الحل السياسي ونبذ الخلافات رغم عمقها وتشعبها بين البلدين، وتمثل الاتصالات الدبلوماسية خطوة إيجابية إذا تحدثنا عن تخفيف حدة التوتر والصراع للمنطقة، ولكن اللافت في التقارب هو أن إيران لا تزال ترى نفوذها ومشروعها في المنطقة قائم على تأسيس الميليشيات المسلحة.
3- تقارب مصر وتركيا: بعد مباحثات استكشافية في القاهرة، انطلقت تركيا ومصر في إصلاح العلاقات المتزعزعة بينهما منذ 8 سنوات عبر مشاورات سياسية لتعزيز الدبلوماسية الرسمية والاقتصادية وسبل دفعها إلى الأمام، بالمقابل رحبت أنقرة بزيارة مصرية رفيعة المستوى، وفيما يتعلَّق بالقضية الفلسطينيَّة في بعدها الجيوسياسي، لن تقبل مصر إلا أن يكون لها دور سياسي في قطاع غزة، وهذا ما حدث بالفعل عندما أصبحت طرفًا مفاوضًا ومؤثرًا، حيث قادت المفاوضات وأرسلت المساعدات وساهمت بوقف إطلاق النار بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، الأمر الذي لاقى استحسان الإدارة الأمريكية التي قدَّمت شكرها للدور المصري في إقناع المقاومة بوقف إطلاق النار.
4- تقارب الإمارات وسورية: زاد الحديث مؤخرًا عن زيارات سعودية إماراتية إلى دمشق في إشارة إلى إنفراج في العلاقات بين البلدين، وقامت الإمارات مؤخرًا بإجراء اتصالات وإرسال مساعدات إلى سورية تتعلق بدعم القطاع الصحي السوري لمواجهة وباء كورونا، وكما هو معروف، تحتضن الأرض السورية ميليشيات الحرس الثوري الإيراني وكتائب حزب الله اللبناني التي شاركت رفقة الجيش السوري في المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ومن قبل ضد قوات المعارضة السورية، وبعد هزيمة التنظيم على يد التحالف الدولي وبمساعدة ميدانية من قوات الحشد الشعبي، زاد تمركز التنظيمات المدعومة من قبل الحرس الثوري الإيراني على الأراضي السوري، في إشارة إلى وجود مقاومة مسلحة قوية على الحدود مع إسرائيل، الأمر الذي سيغير معادلة المواجهة مستقبلاً من مواجهة أحادية في غزة إلى مواجهة متعددة الأطراف بمشاركة سورية لبنانية، لذلك تحرص دول الخليج ومنها الإمارات على بناء علاقات تتخذ بعد “صفر مشاكل” في العلاقة بين البلدين.
رابعًا: تقييم الموقف الأردني والتوصيات:
لا توجد دولة في العالم تبنت القضية الفلسطينيَّة ديبلوماسياً مثل الأردن، ففي خطابات الملك ولقاءاته والنشاط الديبلوماسي تقع دوماً قضية التسوية السلمية والتأكيد على أهمية الحل السياسي، ورفض تغيير الأمر الواقع من قبل إسرائيل في أولويات العمل الدبلوماسي الأردني.
خلال الأعوام الأخيرة، بخاصة منذ نقل السفارة الأميركية إلى القدس ثم إعلان صفقة القرن؛ ازداد النشاط الديبلوماسي والسياسي الأردني في دعم الفلسطينيين والتأكيد على الحل السياسي ورفض تغيير الأوضاع في القدس، وكان الأردن خارج السياق الإقليمي الذي تشكل على قاعدة السلام العربي- الإسرائيلي، بعيداً عن الموضوع الفلسطيني، وعلى قاعدة العداء مع إيران.
كان موقف الأردن متميزًا في رفض الصفقة ومواجهتها، وهو موقف حمل كلفته النظام الأردني، وأدى إلى ما يشبه القطيعة بين الملك وإدارة ترامب، فوق ذلك خرج ترامب ساخراً مقللًا من أهمية القراءة الأردنيَّة لقرار نقل السفارة الأمريكيَّة إلى القدس ومن تحذيرات الملك من أنّ القدس ستفجّر المنطقة، وزاد ترامب أننا نقلنا السفارة ولم يحدث شيء، بالمقابل ظل الموقف الأردني صلباً، وتوجه الملك حينها إلى تركيا وتحرك وزير الخارجية أيمن الصفدي في جولات مكوكية بين أوروبا والجامعة العربيَّة والعالم ليؤكد على خطورة صفقة القرن وما يحدث في القدس، وعواقب نقل السفارة، وما تشهده الحداث في الأراضي الفلسطينيَّة المحتلة يثبت أهمية القلق الأردني لما يحدث بالقدس.
ما يثير الاستغراب، أنّ الموقف الأردني الصلب، لم ينعكس بوضوح على السياسات والخطاب الإعلامي الأردني خلال الأزمة، وبدلاً من أن يكون ما حدث تأكيد لمصداقية التحذيرات وتعزيزاً للخطاب الأردني ودعماً له داخلياً وخارجياً، بدا كمن أغرقه النوم، واكتفى المسؤولون بخطاب تقليدي لا يرقى إلى مستوى التفاعل الشعبي الأردني والعربي والعالمي مع الحالة الفلسطينيَّة، ولا يعكس حجم الجهود وقوة الموقف الذي قدمه الأردن نفسه خلال الأعوام الماضية، وأفضى ذلك إلى تكريس حالة جمود دبلوماسية وسياسية أمام المتغيرات الجديدة التي تشكَّلت في المنطقة.
على صعيد السياسة الفلسطينيَّة، هناك مشكلة كبيرة في “الغموض الاستراتيجي” في ترسيم حدود الأمن القومي الأردني، فإذا كانت مصر تعتبر غزة امتداداً للأمن القومي المصري، وهي كذلك، وتضع كل خلافاتها مع حركة حماس على الرف، وتعتبر نفسها طرفاً مهماً في تحديد الوساطة والهدنة وتقرير الأمور، فمن باب أولى أن يكون الأردن واضحاً فيما يتعلق بالضفة الغربية والقدس والقضية الفلسطينيَّة التي لا تمثل امتداداً للأمن القومي الأردني، بل هي جزء منه، تمس القضية الداخلية والأمن الوطني والحدود والمصالح المشتركة والوصاية على المقدسات، لذلك ليس أمراً منطقياً أن يكون الدور الأردني خارج سياق الحسابات المباشرة في هذه الأحداث.
من الواضح أنّ هنالك خلطاً كارثياً يحدث بين اعتبارات الأمن الوطني والمصالح الحيوية الأردنيَّة في الضفة الغربية والقدس والقضية الفلسطينيَّة عموماً من جهة ومسألة الخشية من الوطن البديل من جهة ثانية، وإذا كانت سياسة الملك عبدالله الثاني منذ البداية قامت على تبنِّ واضحٍ لمقاربة استراتيجية عنوانها الأردن هي الأردن وفلسطين هي فلسطين، وأنهى جدلاً تاريخياً معروفاً في هذا السياق، لكن ذلك لا يعني أن المصالح الأردنيَّة ليست ممتدة ومشتبكة مع الحالة الفلسطينيَّة، وأنّنا أمنياً وسياسياً ومجتمعياً وثقافياً متأثرون لمدى بعيد ومهم فيما يحدث غربي النهر.
أدى ضعف حركة فتح والسلطة الفلسطينيَّة إلى إضعاف الموقف الأردني وجهوده السياسية والدبلوماسية، وأوضحت الأحداث تفرّد عبّاس في اتخاذ القرارات المرتبطة بالصالح الوطني المشترك، بالتالي لابد من تقييم العلاقة مع عبّاس والبحث عن بدائل ترتقي إلى مستوى التطلعات السياسية الأردنيَّة، وكيفية تحقيق المصلحة الفضلى لكلا الدولتين، والتفكير استراتيجيًا في مرحلة ما بعد عبّاس، وعدم اقتصار العلاقة على التنسيق الأمني، وتوسيع الخيارات وتفعيل العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية، والدبلوماسية الشعبية.
ضمن الحراك الإقليمي، لم يكن للأردن دور مباشر في الوساطة، وذهب تقدير الإدارة الأمريكية باتجاه خيار مصر التي اتخذت موقفًا مسبقًا بارتباط غزة المباشر بالأمن الوطني المصري، كذلك كان هناك خيار تونس ليس بصفتها ممثل لمجلس الأمن، أيضا لصفتها المؤثرة في الإسلام السياسي، وكانت أيضًا دولة قطر من ضمن الخيارات، بالتالي لابد من إعادة تقييم وترسيم وتحديد الدور الإقليمي الأردني ضمن حراك الجيوبوليتيك الجديد في المنطقة وعلى ضوء ما حدث في الأراضي المحتلة، هذا يقودنا إلى طرح أسئلة في هذا السياق: لماذا تأخر الأردن في إعادة العلاقات مع سورية؟ رغم أهميتها للأردن أكثر من بقية الدول التي تقيم علاقات معهاّ! ولماذا لم تفكر الأردن لغاية الآن في العلاقات الأردنيَّة الإيرانية؟ رغم أن السعودية بادرت لإعادة العلاقات معها، والأردن في وقت سابق طردت السفير الإيراني تماشيًا مع المصلحة السعودية؟
خاتمة تنبه المجتمع الدولي مؤخراً إلى أن قضية القدس هي قضية مهمة ومحورية في استقرار المنطقة ومساعي السلام، وظهور الموقف الفلسطيني المتجانس القادر على قلب المعادلات في ظل عدم جدوى حل الدولتين، كما أن المشروع الوطني الفلسطيني بحاجة إلى مؤسسات فاعلة، وفي ظل ضعف السلطة الحالية سيضعف المشروع الوطني بالضرورة، إلا إذا تولت المهمة مؤسسة جديدة.
في ظل السقوط الضمني لاتفاق أوسلو؛ عادت حماس لتدخل الحسابات الإقليميَّة بجدارة، وحققت علو كعب سياسي ورمزي للحركة وفصائل والمقاومة، خصوصًا مع المتغيرات الدوليَّة المتسارعة التي تشهدها الجيوسياسية الإقليميَّة والدوليَّة تسير بعكس اتجاه مصالح إسرائيل التي تواجه ثلاثة أزمات، أزمة سياسية داخلية تتمثل في تصدعات اجتماعية وأيديولوجية، واختلال موازين الردع بينها وبين حماس في ظل توجه ديمقراطي أمريكي لوقف المساعدات الأمريكية، أخيرًا هبّة الفلسطينيين في الداخل، بالتالي هناك أهمية كبيرة للعلاقة مع المجتمع الفلسطيني في الداخل، وقد تكون أكثر أهمية من العلاقة مع حركة فتح وحماس، ويعود ذلك لأسباب عديدة، من أهمها؛ امتلاك عرب الداخل المقدرة على فهم العقلية الإسرائيلية والتأثير فيها سياسيًا واجتماعيًا.
يجد الخبراء أن لدى الأردن إشكالية في تعريف الأمن القومي الأردني والمصالح الوطنية الأردنيَّة ومصادر التهديد، وغياب أدبيات تبني مفهوماً واضحاً للأمن الوطني ومضامينه واتجاهات المصالح، والمصالح الوطنية، والعلاقة مع الضفة الغربية ودول الجوار الإقليمي، هذا ينعكس على الممارسة السياسية التي تظهر فجوات بين الموقف الشعبي وموقف النظام السياسي.
تتطلب ديناميات التغيير الإقليميَّة إجراء مراجعات مستمرة للدور الأردني في القضية الفلسطينيَّة باعتبارها جزءاً من الأمن الوطني والقومي الأردني، والعمل على تبني مقاربة “الحقوق” كخيار موازي ومجاور لخيار حل الدولتين في ضوء إخفاق حل الدولتين، وخلق أدوات سياسية استراتيجية جديدة في الضفة الغربية، وإجراء مراجعة جذرية للعلاقة مع إسرائيل التي برهنت مؤخرًا على أنها لا تريد المصلحة الأردنيَّة، وتتعمد إحراجها سياسيًا مع تغير المعادلة التي تقول بأن إسرائيل جار آمن للأردن، فقد أصبحت تشكل اليوم أكبر تهديد للدولة الأردنيَّة.
العمل على تقوية الجبهة الداخلية من خلال مشروع إصلاح سياسي جدي، لأنّ أحد أهم شروط بناء الإمكانيات الدبلوماسية والسياسية في التعامل مع الواقع الجيو استراتيجي قوة الدولة في الداخل، وردم الفجوات التي أخذت في الاتساع خلال الأعوام الأخيرة بصورة مقلقة بين المؤسسات الرسمية والشارع، كما أن للإصلاح السياسي دور كبير في التعافي الاقتصادي وعدم الاعتماد على المساعدات الاقتصادية خصوصًا تلك التي تؤثر في القرار السياسي.